الاثنين، 23 نوفمبر 2020

وظيفتنا الثالثة :


المقامات الأساسية للتصوف السني

إعلم أخي وفقك الله أن هذا القرآن الذي تقرأ وتتدبروالسنة التي تريد أن تتبع ، قد اقتدى بها سلفنا الصالح وكان منهم من كان فهمه جوهريا وحكيما للكتاب والسنة: فبعلم هؤلاء نتشبت :علم الصديقين من الأمة الراسخين في العلم :الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين..

وهؤلاء حينما مارسوا التدين استنطوا كما استنبط رسول الله صلى الله عليه وسلم :بأن الفهم درجات ليوصي صلوات ربنا عليه :بقوله:خاطبوا الناس على قدر عقولهم.
ولهذا فتدين الصحابي والولي ليس هو تدين العالم والفقيه في شرع الله فقط ..

بل هناك العلماء بالله تعالى الذين علومهم كالبحور الهادئة ولهم فهم حكيم لكتاب الله وسنة رسوله صلوات الله وسلامه عليه:" ومن يوت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا" ..

ولهذا فمن الحكمة أن ترى أن الهداية لشرع الله ليست هي الهداية لله..

 ونحن نريد أن نهتدي إن شاء الله لله بشرع الله " فلا حقيقة دون شريعة "..والشريعة عندنا وسيلة للعمل لا هدفا للعلم. فهدفنا علميا المعرفة بالله وذاك هو العرفان.
فمقام الهدى لله أعلى من مقام الهدى لشرعه..

ولهذا فإن الفاتحة أخي في الله لم تربطك بالشرع بل ربطتك بالمشرع :

فالشرع وسيلة والقرب ومحبة المشرع غاية ..

فكيف تصل إلى الغاية ولا تأسرك الوسيلة ؟ 

أو كيف ترقى إلى مقام القرب ومقام المحبة؟ 

أو كيف تهتدي لله؟ 

كما تكلم على ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم وكما شرحه ومارسه حكماء الأمة؟:
فاعلم أخي في الله: أن لا قرب لك حتى تذوق من أنوار أسمائه الحسنى ما شاء لك سبحانه: 

وأنت تسلك بكل ربانية في مقامات وأحوال السلوك والفرار إليه :
واعلم أخى أن مقام القرب من الله، ومقام الهدى الذي تدعو به في الفاتحة، ثم مقام المحبة الذي هو من آفاق الهدى: غاية من غايات الإحسان ..

ولن تذوق الإحسان ما لم يكتمل إسلامك فإيمانك : فهما مقامان لازمان لتذوق مقامات الإحسان هاته ، والتي سنشرحها لكن بإيجاز :
" فخير الكلام ما قل ودل"..
فتعالى نبدأ من مقامات الإسلام فالإيمان قبل أن نرقى إلى هاته الآفاق العليا للإحسان.. وحتى الصديقية: 

"وبتلميح عملي لا استفاضة فيه لأن الموضوع يحتاج لوحده مجلدات خاصة ..

ولا نركز في هذا المقتطف على معلومات بل على الدعوة للعمل بكل هاته الأحوال والمقامات إن شاء الله تعالى "
فنلخص لك أخي ـ يا طالب النور والهدى ـ مقام الإسلام في:


ـ مقام الفريضة: ويبدأ بالتطهر الأكبرللدخول في الإسلام وهو الغسل الأكبر الواجب عليك بداية..ثم الشهادة بكل إخلاص ودون رياء ، فالرياء هو الشرك الأصغر الذي يبطل كل أعمالك وهو أن يكون غرضك من العبادة غير الله تعالى ومرضاته فتقول بإخلاص : "لاإله إلا الله محمد رسول الله" ..ولايكون لك هدف دنيوي من عبادتك مهما صغر أو كبر ، وبعد كمال نيتك إذن ثم طهارتك فشهادتك بلا إله إلا الله محمد رسولا الله" بكل يقين: عليك الإلتزام بأداء الصلوات الخمس فالصوم فالزكاة والحج لمن استطاع إليهما سبيلا.ولهذا تكفيك كتب الفقه الأصغر كبداية.


ـ مقام النافلة: وتبدأ من أول نوافل الذكر وهي: تكرار لا إله إلا الله :"إن الإيمان ليصدأ فجددوه بلا إله إلا الله" ثم نوافل الصلاة وخصوصا الرواتب فصوم التطوع كالأيام المباركة والأيام البيض والإثنين والخميس ..فالصدقات ونفقات الخير ..فالعمرات لمن يسر الله له ..واعلم أخي أن كل هاته النوافل من مستلزمات سلوكك فلا تكفيك الفريضة إن كنت من أولي العزم نحو المقامات العلى:فتشبت بهاته النوافل فلا يتشبت بها إلا مومن.


ـ مقام المعاملة : ويعني التعامل مع الناس بالحسنى وبالصدق والخير والحق واللين..


وهاته المقامات الثلات هي التي تجعل إسلامك يرقى إلى الإيمان ثم إيمانك يرقى إلى مقام الإحسان بحول الله إن فررت إلى الله حقا وأتممت سلوكك ..


واعلم أخي أن الأساس هو مقامات الإسلام هاته ..بينما مقامات الإيمان ومقامات وأحوال الإحسان فهي متشابكة ويتداخل بعضها في بعض ولها نشير بإيجاز في الفقرات التالية.. 

ولن يكتمل عملك بالفاتحة إلا في مقاماتها العليا..ألست تدعوا بمقام المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؟ فارق لمقاماتهم وما ذلك على الله إن اجتباك بعزيز :"والله يهدي إليه ينيب"فارجع لله في كل صغيرة وكبيرة يوفقك الله لهاته الهداية بحوله وفضله ومنته سبحانه:


فماذا عن هاته الأحوال والمقامات التي هي سلم صعودك نحو سماوية روحك وقلبك وفكرك :بل وجوارحك وضمائرك وجوانحك كلها:


أولا ثم أولا :مقام التوبة : "وإن أول شروط ا لتوبة ا لنصوح : التوبة من كل ذنب ونهايتها التوبة من التوبة أي توبتك من أخطاء توبتك وتوبتك من رؤية أنك التائب لا الله هو الذي تاب عليك ..فالله تعالى قال:" وتاب عليهم ليتوبوا" ولم يقل :"تابوا فتاب عليهم "فافهم.. 

وعند الفقهاء لا تتم إلا باستغفارك وندمك وعزمك على عدم العودة لذنوبك ..وتحررك من واجباتك وحقوق غيرك .. 

وأما في مدرستنا فإلى جانب ما فرضه علم الفقه الأصغر..فلا يكتمل لك تحقيقها حتى تلتزم بست منازل هي:


1اليقظة: وهي ترك سكر الغفلات والإشتغال بالطاعات: فتقوم من سبات كسلك في الطاعات: لتشمر على الإنضباط في الصلوات الجماعية أول..ا ثم رواتبها فنوافلها ..فالأذكار الواجبة لك من تلاوة وهيللة وحمد واستغفار وحوقلة وتسبيح وتكبير فحسبلة.. فتلاوة وتجويد لكتابه تعالى .وبكل حرص على أن لا تعصى الله إلا مكرها ..وكلما وقعت في ذنب مهما صغر أو كبر بادرت في الإستغفار والتضرع واستئناف التوبة والصدقة والتنفل.


2التفكر: وهو التأمل في الكون والعلم والنفس: فتكون مصرا على أن تعبد الله بفكرك كما تعبده بجوارحك : وأول عبادة لك هنا الصلاة بعقلك :فلا تصل إلا وأنت تفكر في كل كلمة تقولها ،فتتمعن كل معاني ما تتلو من قرآن كريم وتسبيح وتكبير وغيره من الأدعية.. ثم استعمال الفكر في الدراسة والتعلم بكل يقظـة..فتقرأ ساعيا للفهم العميق لا للحفظ والفهم البسيط...ولن يكمل لك هذا الفهم العلي حتى تبدأبالتفكر في جسمك كيف أبدعه الله وسواه في أحسن صورة ،وفي معجزات الله في نفسك وفي غيرك إلى أن تتأمل الكون كله :" سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " فبهذا تصل للحق والحقيقة والرسول صلى الله عليه وسلم قال لحارثة بعد أن قال له حارثة :لقد أصبحت مومنا حقا " فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : " لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك "؟" فتحقق جزاك الله من كل شيء..ونحن لحد الآن لا نتكلم إلا عن المقام الأول ..: حقيقة إسلامك .فتحقق وحقق معنا ولا تكن من أولي الهمم الدنيئة ..


3البصيرة:وبدايتها المعرفة بالعيوب ونهايتها الفراسة التي لاتخطئ والكشف المحق ..فالبداية هنا هي بداية مقام المراقبة الذاتية فيكون منك إثنان نفس تعيش وقلب وعقل وروح يراقبونها بكل صرامة ..ولا تغلب واحدة ثلاثة إن صبرت في البدايات. خصوصا عندما تذوق عسل قلبك الذي هو حلاوة إيمانك ..وخصوصا إن صفت قليلا بصيرتك فانطبق عليها قوله عليه الصلاة والسلام :"اتقوا فراسة المومن فإنه يرى بنور الله"..فبعدها لك أن تطمع في مقام الشهود والكشف كما سنبين لك فيما بعد. وإن تحركت هنا بصيرتك واستمررت في السلوك فقد فلحت للرقي نحو مقامات المحسنين.


4 العزم: وهو الجزم في إرادة وجه الله تعالى محبة لذاته: حيث يكون لك عزم ثابت لعبادة الله محبة لوجهه الكريم والقرب منه ..وهذان المقامان" البصيرة والعزم" ليسا من مقامي أهل الإسلام ولا الإيمان فقط ..بل هما من أعلى مقامات الإحسان كما سيتبين لك فيما بعد ..فاعزم إذن على أن تحب الله حقا وتتقرب منه صدقا، لكن ليس بنفسك :إذلا تصل لهذا إلا إذا تبرأت من حولك وقوتك لحوله وقوته :" وإذا عزمت فتوكل على الله" فعليك الإجتهاد وعليه سبحانه وتعالى الثمرات.


5 المحاسبة: وهي سؤال النفس عن كل قول وفعل ..فتحاسب نفسك عن القول فلا تتكلم إلا لضرورة ومنفعة ملغيا لكل لغو وكل ذنوب اللسان " فمن كثر لغطـه كثر خطـأه" وتحاسب نفسك عن كل عمل هل هو صواب وعلى السنة إن كا ن حلالا؟..وهل هو خالص لوجه الله؟.. كما تتوب من كل قول وعمل ذميم مهما صغر.


6 المراقبة: وهي الشعور بحضرة الرقيب تعالى : فتراقب نفسك لأن هناك من يراقبك وهي الملائكة بعد الله تعالى. فتراقب نفسك كما سلف وأنت تستشعر مراقبة الملائكة الكرام عليهم السلام والله سبحانه وتعالى :" فإنك بأعيننا "
وبهاته المنازل الست تكون قد عمقت أسس توبتك وفي نفس الوقت بنيت كل ركائز المقامات العلى :

ومن علامات قبول التوبة بمقاماتهاالست هاته أربع منازل أخرى هي :


1الإنابة:وهي الرجوع الكلي لله في كل صغيرة وكبيرة ..فتكون من الأوايبن كما الأنبياء :" إن إبراهيم لحليم أواب" ..وهاته الإنابة هي بداية فرارك نحو الله تعالى :" ففروا إلى الله"


2التذكر: دوام الذكر والعلم والتفكروالتضرع..فيكون لك وردا يوميا من الذكر والدعاء المأثورين بعد الصلوات وخصوصا عند الشروق والغروب كما يكون لك وقت معلوم لتلاوة وتجويد القرآن الكريم ووقت لدراسة القرآن والعلوم ما استطعت .


3الاعتصام:الإستجارة بطاعة الله من معصيته..وهاهنا يلزمك التحقق من " لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " فتتحقق من عجزك الكامل ومن قدرته سبحانه المقتدرة: فتعتصم بقدرته ولا تتكل إلا عليه ..ولا يتم لك ذلك إلا إذا احتميت بطاعته وفررت من كل المعاصي ما استطعت.


4 الفرار لله: وهو نتيجة إنابتك إن كانت صادقة وهو بداية السلوك نحو رحاب الأحوال والمقامات:فتزهد في كل ما سواه سبحانه:وهذا الزهد يعني زهدك في كل حرام ولا تأخذ من دنياك إلا الحلال: ولا يعني هذا زهدك في بعض الحلال فذاك مقام الورع الذي لم تصله بعد.
ومن نتائج هاته المقامات السالفة كلها كل أحوال ومقاما ت السلوك...

قصائد في حب الله تعالى : 

عرفت الهوى مذ عرفت هواك 

وأغلقت قلبي عن من سواك 

وبت أناديك يا من ترى 

خفايا القلوب ولسنا نراك 

أحبك حبين حب الهوى

 وحبا لأنك أهل لذاك 

فأما الذي هو حب الهوى 

فشغلي بذكرك عمن سواك 

وأما الذي أنت أهل له 

فكشفك لي الحجب حتي أراك 

فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي 

ولكن لك الحمد في ذا وذاك

 وأشتاق إليك شوق النوى 

وشوقا لقرب الخطى من حماك

 فأما الذي هو شوق النوى 

فنار حياتي غدت في ضياك 

وأما اشتياقي لقرب الحما 

فما ترى الدموع لطول نواك

 فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي 

ولكن لك الحمد في ذا وذاك 

*********************************

على أبوابكم عبد ذليل 

كثير الشوق ناصره قليل 

له أسف على ما كان منه 

وحزن من معاصيه طويل

 يمد إليكم كف افتقار 

ودمع العين منهمل يسيل 

يرى الأحباب قد وردوا جميعا

 وليس له إلى ورد سبيل 

أكون نزيلكم ويضام قلبي

 وحاشا أن يضام لكم نزيل 

فإن يرضيكم طردي وبعدي 

فصبري في محبتكم جميل 

وحق ولائكم وشديد شوقي 

سلوّي عن هواكم مستحيل 

قضيت بحبكم ايام عمري 

فلا أسلوا وهل يسلى الجميل

*********************************

 أيا من ليس لي منه مجير 

بعفوك من عذابك استجير 

أنا العبد المقر بكلّ ذنب 

وأنت السيّد المولى الغفور 

فإن عذّبتني فبسوء فعلي 

وإن تغفر فأنت به جدير 

أفر إليكم منك وأين إلاّ 

إليك يفرّ منك المستجير 

********************************

 يا ربّ إن عظمت ذنوبي كثرة 

فلقد علمت بأنّ عفوك أعظم 

إن كان لا يدعوك إلاّ محسن

 فمن الذيرجو ويدعو المجرم 

أدعوك ربّي كما أمرت تضرّعا 

فإذا رددت يدي فمن ذايرحم 

مالي إليك وسيلة إلاّ الرجا 

وجميل عفوك ثمّ إنّي مسلم 

********************************

إلهنا ما أعدلك مليك كلّ من ملك 

لبّيك، قد لبّيت لك 

لبّيك إنّ الحمد لك 

والملك، لا شريك لك 

ما خاب عبد سألك 

أنت له حيث سلك 

لولاك ياربّ هلك 

لبّيك إنّ الحمد لك 

والملك لاشريك لك

 كلّ نبيّ وملك

 وكلّ من أهلّ لك

 وكلّ عبد سألك 

سبّح أو لبّى فلك 

لبّيك إنّ الحمد لك 

والملك لا شريك لك 

واللّيل لمّا أن حلك 

والسّابحات في الفلك 

على مجاري المنسلك

 يا مخطئا ما أغفلك 

عجّل وبادر أجلك 

واختم بخير عملك 

لبّيك إنّ الحمد لك 

والعزّ لا شريك لك

 والملك لا شريك لك

 والحمد والنّعمة لك 

 ********************************

يامن يرى ما في الضمير ويسمع

 أنت المعدّ لكل ما يتوقع 

يامن يرجى للشدائد كلها 

يامن إليه المشتكى والمفزع 

يامن خزائن رزقه في قول كن 

أمنن فإن الخير عندك أجمع 

مالي سوى فقري إليك وسيلة

 فبالإفتقار إليك فقري أدفع 

مالي سوى قرعي لبابك حيلة 

فلئن رددت فأيّ باب أقرع 

ومن الذي أدعو وأهتف باسمه

 إن كان فضلك عن فقيرك يمنع 

حاشا لجودك أن يقنط عاصيا 

الفضل أجزل ، والمواهب أوسع 

*********************************

يامن تحل بذكره عقد النوائب والشدائد 

يامن إليه المشتكى وإليه أمر الخلق عائد

 يا حي يا قيوم يا صمد تنزه عن مضادد 

أنت الرقيب على العباد وأنت في الملكوت واحد

 أنت العليم بما ابتليت به وأنت علي شاهد 

إن الهموم جيوشها قد أصبحت قلبي تطارد

 فرج بحولك كربتي يامن له حسن العوائد

 فخفي لطفك يستعان به على الزمن المعاند 

أنت الميسر والمسبب والمسهل والمساعد

 سبب لنا فرجاً قريباً يا إلهي لا تباعد 

كن راحمي فلقد يئست من الأقارب والأباعد 

وعلى العدى كن ناصري لا تشمتن بي الحواسد

 ياذا الجلال وعافني مما من البلوى أكابد

 وعن الورى كن ساترا عيبي بفضل منك وارد

 يارب قد ضاقت بي الأحوال وإغتال المعاند 

فأمن بنصرك عاجلا فضلا على كيد الحواسد 

هذي يدي وبشدتي قد جئت يا رباه قاصد 

فلكم إلهي قد شهدت لفيض لطفك من عوائد

الخشوع:

الخشوع لغةً: هو الخُضوعُ، والسُّكونُ، والتذلُّلُ، والفعل منه: خَشَعَ؛ يُقال: خشَع الشخصُ لربّه: أي خضع واستكان، وتضرّع، وتذلّل، والخُشوعُ يمكن أن يكون في البدن، أو الصوت، أو البصر.

 الخشوع شرعاً: هو تحقُّق تذلُّل القلب، وخضوعه، وانكساره لله -سبحانه-، ومن ذلك قول الله -تعالى-: (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) .

 والخشوع في الصلاة: أن يتفاعل المصلّي مع ما يقرؤه ويتلوه ويؤدّيه في الصلاة، فيشعر أنه في صلة مع الله -عز وجل- أثناء صلاته .

كما يُعرَّف الخشوع بأنّه: قبول القلب للحقّ، والانقياد إليه، والخضوع له إن خالف هواه، وبخشوع القلب يتحقّق خشوع الأعضاء، والجوارح؛ إذ إنّها تتبع القلب .

وبناءً على ما سبق فالقلب مَحلّ الخشوع، مع ظهور آثاره وعلاماته على الجوارح، ولا يتحقّق الخشوع إن لم يكن في القلب .

 وتجدر الإشارة إلى أنّ لفظة (الخشوع) وردت في القرآن الكريم مرتبطة بالصلاة، كما وردت مطلقة. 

حُكم الخشوع في الصلاة

اتّفق جمهور أهل العلم على أنّ الخشوع سُنّةً من سُنن الصلاة، واستدلّوا على ذلك بعدم بطلان صلاة من فكّر بأمرٍ من أمور الدنيا، ويُحكَم على صلاته بالصحّة، خاصّةً إن كانت أفعالها صحيحةً.

وخالفهم في ذلك الإمام الغزالي، حيث ذهب إلى اعتبار الخشوع في الصلاة شرطاً لصّحتها؛ استدلالاً بعدّة أدلّةٍ من القرآن الكريم، والسنّة النبويّة، يُذكَر منها: 

قول الله -تعالى-: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكري)، وظاهر الأمر في الآية يُفيد الوجوب، والغافل عن الصلاة غير المُحقّقِ للخشوع لا يكون مُقيماً للصلاة، كما قال -تعالى-: (وَلا تَكُن مِنَ الغافِلينَ).

فالنهي عن الغفلة وعدم الخشوع يُفيد التحريم، وكذلك نُهِيَ السكران عن الصلاة حتى يعلم ويدرك ما يقول؛ لأنّه غافلٌ لا يُحقّق الخشوع. 

وقول الرسول -صلّى الله عليه وسلّم-: (مَنْ لَمْ تَأْمُرْهُ صلاتُهُ بالمعروفِ وتنهاه عنِ المنكرِ لم يزْدَدْ مِنَ اللهِ إلَّا بُعْدًا).

فقال الغزالي بأنّ صلاة الغافل لا تنهاه عن الفحشاء والمنكر. وإستدل بقول النبي -صلّى الله عليه وسلّم-: (ليسَ للعبدِ من صلاتِهِ إلا ما عَقَلَ منها).

 وبقول رسول الله: (إنَّ العبدَ ليصلي الصلاةَ لا يُكتبُ له نِصفُها ولا ثُلُثُها ولا رُبُعُها ولا خُمُسُها ولا سُدُسُها ولا عُشْرُها).

وبعدم تحقُّق المناجاة لله من الغافل غير الخاشع؛ إذ إنّ المُصلّي يُناجي ربّه في صلاته. 

كيفيّة الخشوع في الصلاة :

 يمكن للمسلم تحقيق الخشوع في الصلاة بعدّة أمورٍ، ومنها ما يأتي: 

تجنُّب حديث النفس، والتفكير في أمور الدنيا، وتركيز التفكير في أمور الصلاة، وما فيها من الأقوال، والأفعال. 

النظر إلى موضع السجود حال القيام، وإلى الحضن حال الجلوس.

 تجنُّب ارتداء ملابس قد تُلهي المُصلّي، وتُشغله. 

عدم الإكثار من الحركة، والالتفات أثناء الصلاة. 

عدم عدّ الآيات التي تُقرَأ في الصلاة، أو مرّات التسبيح في الركوع والسجود. 

حرص المُصلّي على وضع سترة، أو حاجزٍ أمامه. 

تدبُّر معاني آيات القرآن الكريم.

 استحضار القُرب من الله -تعالى- في الصلاة، وخاصّةً في السجود الذي يُعَدّ موضع استجابة الدعاء، ورَفع الدرجات.

أسباب الخشوع في الصلاة : 

يجدر بالمصلي أنْ يحرص على تحقيق الخشوع في الصلاة؛ فيلتمس سبل ذلك، ويبتعد عن كلّ ما من شأنه أنْ يضعف خشوعه فيها، ومن هذه الأسباب ما يأتي: 

الاستعداد للصلاة والتهيُّؤ لها، ومن ذلك: حُسن الوضوء، والدعاء بين الأذان والإقامة، والتسوُّك، وتسوية الصفوف، وانتظار الصلاة، والاطمئنان فيها. 

قراءة الآيات آيةً آيةً؛ فذلك يُعين على التدبُّر والخشوع، والحرص على ترتيل الآيات. 

إستشعار إجابة الله لعبده المُصلّي، قال الرسول -صلّى الله عليه وسلّم-: (قالَ اللَّهُ تَعالَى: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، ولِعَبْدِي ما سَأَلَ، فإذا قالَ العَبْدُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ)، قالَ اللَّهُ تَعالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وإذا قالَ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، قالَ اللَّهُ تَعالَى: أثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وإذا قالَ: (مالِكِ يَومِ الدِّينِ)، قالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وقالَ مَرَّةً فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي، فإذا قالَ: (إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قالَ: هذا بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي، ولِعَبْدِي ما سَأَلَ، فإذا قالَ: (اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذينَ أنْعَمْتَ عليهم غيرِ المَغْضُوبِ عليهم ولا الضَّالِّينَ) قالَ: هذا لِعَبْدِي ولِعَبْدِي ما سَأَلَ). 

تجنُّب التركيز على آياتٍ، أو أدعيةٍ، أو أذكارٍ مُعيَّنةٍ في الصلاة وترديدها في كلّ صلاةٍ، بل يجب الحرص على التنويع فيها، وبذلك تتجدّد المعاني والدلالات، ويتحقّق الخشوع أيضاً. 

أداء سجود التلاوة إن مرّ به المُصلّي أثناء القراءة في الصلاة. 

الاستعاذة بالله، واللجوء إليه من الشيطان الرجيم؛ وبذلك يتّقي المُصلّي وساوس الشيطان، ويطردها. 

حرص المسلم في أوقات فراغه على مطالعة حال السّلف الصالح مع الصلاة، واستحضار سيرتهم في الخشوع فيها؛ فقد كان عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- يتغيّر لون وجهه، وتتغيّر حالته إن حضرت الصلاة، وحين سُئِل عن ذلك أجاب بأنّه وقت الأمانة. 

معرفة عظيم أجر الخشوع في الصلاة، وممّا يُبيّن ذلك قول الرسول -صلّى الله عليه وسلّم-: (يقولُ ما مِنَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلاةٌ مَكْتُوبَةٌ فيُحْسِنُ وُضُوءَها وخُشُوعَها ورُكُوعَها، إلَّا كانَتْ كَفَّارَةً لِما قَبْلَها مِنَ الذُّنُوبِ ما لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً وذلكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ). 

عدم أداء الصلاة في حال حصر البول، أو الغائط، أو الرِّيح، أو النوم، أو حضور الطعام؛ لقول النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: (لا صَلَاةَ بحَضْرَةِ الطَّعَامِ، ولَا هو يُدَافِعُهُ الأخْبَثَانِ)، وقوله: (إذَا نَعَسَ أحَدُكُمْ في الصَّلَاةِ فَلْيَنَمْ، حتَّى يَعْلَمَ ما يَقْرَأُ).

 أداء الصلاة بعيداً عن أيّ أمرٍ قد يُشغل البال والتفكير، ومن ذلك أداؤها بعيداً عن المُتحدِّثين والمُتكلِّمين؛ لعدم التفكير في حديثهم. 

تجنُّب رفع البصر إلى السماء، أو التثاؤب، وغير ذلك من الأمور الصارفة للخشوع.

 النظر إلى موضع السجود، وعدم الالتفات في الصلاة.

 موانع الخشوع في الصلاة

توجد عدّة أمورٍ لا بُدّ للمُصلّي من الابتعاد عنها؛ كي يُحقّق الخشوع في الصلاة، ومنها:

الاختصار في الصلاة: وقد اختلف العلماء في معناه؛ فمنهم من فسّره بوضع اليد على الخاصرة، وقِيل إنّه الاقتصار في القراءة، وعدم إعطاء الصلاة حقّها؛ وذلك بالاختصار من واجباتها.

 كثرة العبث والحركة: جاء تشريع الصّلاة في الإسلام معزّزاً بجملة من السّنن والآداب التي تحفظ للمصلي خشوعه فيها؛ ولذلك لا تليق بها كثرة العبث والحركة؛ فذلك يُفقد المُصلّي الخشوع.

 فرقعة الأصابع: لأنّ ذلك ينافي الخشوع، ومثل ذلك الفعل العبثُ باللحية، أو الساعة، ونحو ذلك.

 إلصاق القدمَين: حيث ذهب الحنفية إلى سنيّة التفريق بين القدمَين بمقدار أربعة أصابع؛ تحقيقاً للخشوع، وقد عَدّ الشافعية إلصاق القدمَين ببعضهما تكلُّفاً يُنافي الخشوع، وكرهوه، وقالوا بالتفريق بين القدمَين بمقدار شِبْرٍ، أمّا المالكية والحنابلة، فقد قالوا بأن يُفرِّج المُصلّي بين قدميه بالمقدار المعروف عُرفاً، وبقَدْرٍ مُتوسّطٍ؛ بحيث لا يضمّهما، ولا يُوسّع بينهما كثيراً، وقالوا إنّ التفريق بين القدمَين مندوبٌ.

ثمرات الخشوع في الصلاة 

تترتّب العديد من الثمرات، والآثار الحسنة على الخشوع في الصلاة، وفيما يأتي ذكرٌ لبعضها:

 تكفير صغائر الذنوب؛ لقول النبي -صلّى الله عليه وسلّم-: (الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إلى الجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إلى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ ما بيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الكَبَائِرَ).

 استجابة الدعاء في الصلاة. سببٌ في قبول الطاعات، وسائر الأعمال.

 نيل الثواب العظيم الذي أعدّه الله -تعالى- لعباده الطائعين. 

تحقيق صفة الفلاح، لقول الله -تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ*الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ).

 حبّ الصلاة والمسارعة إليها، والعون على أداء ما أوجبه الله -تعالى-، والبُعد عمّا حرّمه.

أدعية وأذكار نبوية شريفة



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق